من أجل الهروب من هوى النفس والفرار من انشغالات الحياة، يحتاج الإنسان دائماً إلى العزلة في طريق الأنس بالمعبود،حتّى أنّه في عزلة وجوده يتمكن من التفكير في آثار صنع ربّهمع أخذ درس في الاعتبار، ويغسل باطنه من صدأ الخطايا بحرقة القلب ودمعةالعين، وليصفي بيت قلبه لحضور خالق الكون، والاعتكاف يوفر الأرضيّة لمثل هذه العزلة،ويتيح فرصة ومجالاً للتعامل مع شؤون النفس، وإظهار نور محبة الله في أعماق وجود الإنسان، حتّى يتمكن الإنسان من رؤية نفسه في بيت معبوده دون القلق بشأن المهام الغير المكتملةوالتعلّقات اليوميّة.
والعبادات تتحققأحياناً على شكل «الذكر»، وأحياناً على شكل «الحركة»، وأحياناً على شكل «السكون»؛ فالحركة مثل الطواف حول بيت الله، والدوران حول الكعبة هو بنفسه يعتبر عبادة؛ والتوقف مثل الوقوف في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى، والبقاء في المسجد مع تعظيم وإكرام بيت الله وهو ما يسمونه بالاعتكاف.
وفي كلّ عام في أيّام البيض من شهر رجب ـ أي: الأيّام13 إلى 15ـ نشهد إقامة سنة الاعتكاف الحسنة، وهو ما تمّ التأكيد عليه كثيراً في رواياتنا.
وفي هذه الفرصة المعنوية يمكننا أنْ نرى حضوراًمؤثراً للعديد من الإخوة المتديّنينوالأخوات المتديّنات، وخاصّة جيل الشباب، الذين كانوا يحضرون أنفسهم للمشاركة في هذه الضيافة العظيمة منذ الأيّام الماضية.
والآن قد يطرح هذا السؤال:لماذا كلّ هذا التأكيد والفضيلة؟
اعتبر سماحة آية الله العظمى الشيخ عبداللهالجواديالآملي في كتابه «حكمة العبادات» أنّ عبادة الله سبحانه وتعالى لها عدّة شؤون، وذكر في هذا الصدد كما يلي:
إنّ عبادة الله سبحانه وتعالى لها عدّة شؤون؛تكون أحياناًفي شكل «فكر»و«ذكر» و«شكر»؛ وأحياناًفي شكل «حركة»،وأحياناً في شكل «سكون»؛ وتحققها بحسب ما أمر به المعبود عزّ وجلّ وما جاء به رسول المعبود(صلّى الله عليه وآله وسلم).
وحیث كان «الفكر»و«الذكر» و«الشكر» عبادة، فقد تعددت الآيات والروايات بهذا الخصوص، ولا داعي لشرح ذلك؛ وحيث تكون «الحركة» عبادة: مثل الطواف ـ وهو الدوران حول الكعبة ـ فهو نفسه عبادة، ومثل السعي بين الصفا والمروة، حيث تعتبر تلك الحركة الخاصّة والهرولة التي فيها عبادة بحدّ ذاتها، ويتمّ ذلك بقصد القربة؛ وحيث يكون «التوقّف» عبادة: مثل الوقوف في عرفات، والمشعر،ومنى؛ طبعاً«الوقوف» هناك ليس بمعنى«السكون»،لكن الحركة أيضاً ليست واجبة،بل نفس البقاء في عرفات، والمشعر، ومنى مع تلك الآداب والسنن الخاصّة واجب.
فإذاً يأمر المعبود أحياناً بالحركة والهرولة، مثل السعي بين الصفا والمروة؛ وفي بعض الأحيان يعتبر الدوران حول بيته أمر لازم وضروري، مثل الطواف في الحج والعمرة؛وأحياناً يعتبر الوقوف والعكوف والإقبال مع التعظيم والتكريم في بيته واجباً أو مستحباً، مثل الاعتكاف.
«العكوف» يعني الإقبال والتوجه إلى شيء بتعظيم وتكريم؛ والاعتكاف في المسجد هو عبادة بحدّ ذاته،ولا يشترط فيه الحركة،ولا يعتبرفيه السكون أيضاً؛ مثل الوقوف في عرفات، والمشعر، ومنى.
واستمراراً لهذا البحث، ساوى هذا الحكيم المتألّه بين فضيلة الاعتكاف والطواف ببيت الله، وقال:
ويكفي في فضيلة الاعتكاف أنّه يعادل الطواف ببيت الله، وقد اعتبر عِدلاً، وقسيماً، ومساوياً للركوع والسجود.
وقد عهد إلى نبيّين من سادة أنبياء الله بتطهير الكعبة وحرمها من قذارة «الوثنيّة»و«الثنويّة»حتّى يتمكن العابدون من الطواف، والاعتكاف، والركوع، والسجود في المطاف وبجنب القبلة وحرم الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا السياق يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[1]أي: وتذكروا عندما جعلنا الكعبة مكاناً للعودة، ومكاناً آمناً للناس، واتّخذوا لأنفسكم من مقام إبراهيم مكاناً للعبادة، ولقد أمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي من أنواع القذاراتللطائفين، والعاكفين، والراكعين، والساجدين.
وبما أنّ الاعتكاف يقع بجانب الطواف، وعِدل للركوع والسجود، يتضح أنّه من أبرز المصاديقللعبوديّة أمام الله سبحانه وتعالى.
وقد أكّد المفسّر الكبير للقرآن الكريم في هذا الكتاب على أهمية الاعتكاف وفضيلته من خلال تناول نقطتين هامّتين، وقال:
ما يزيد من أهمية الاعتكاف وفضيلته نقطتان، إحداهما مهمّة والأُخرى أهم: النقطة المهمّة هي أنّ الاعتكاف ليس كالصلاةبحيث يمكن أداؤه في أيّ مكان؛ أمّا بالنسبة للصلاة فإنّها تؤدى في أيّ مكان على أساس «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» [2]، لكن الاعتكاف ليس كذلك؛فالاعتكاف يجب أنْ يكون في المسجد وفي بيت الله، والمسجد أيضاً ليس أيّ مسجد كان، بل [من الضروري أنْ يكون]المسجد الأعظم ـ أو بتعبير آخر: المسجد الجامع ـ، أو المسجد الحرام، أومسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أو المسجد الذي أقام فيه المعصوم (سلام الله عليه) صلاة الجمعة أو صلاة الجماعة، أو المسجد الذي أقام فيه إمام عادل ـ وإنْ لم يكن معصوماً ـ صلاة الجمعة أو صلاة الجماعة.
فلذا يجب أنْ يكون الاعتكاف في مسجدٍ يكون مكاناً لصلاة معظم المسلمين،والمقصود هو: المسجد الجامع أو الأعظم، والمسجد الذي يعدّ من أكبر المساجد في المدينة، والذي تقام فيه الجماعات الرسميّة؛لذلك فإنّ كون المسجدمسجداً ميزة، وإقامة صلاة الجمعة أو الجماعة فيه ميزة أُخرى؛فإذاً لا يصحانعقاد الاعتكاف في المسجد المهجور، وأولئك الذين خصّصواالاعتكاف بالمسجد الحرام ومسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أو خصّصواالاعتكاف بالمساجد الأربعة، يجب أنْيحمل كلامهم على الأفضليّة، لا التعيّن.
والنقطة الأهم هي أنّ«الصيام»والذي يعدّ من الأركان المهمّة للدين ومن المبانيالمهمّة والأصيلة للإسلام ـ على أساس أنّه:«بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والولاية» [3] ـجعل شرطاًللاعتكاف،فالعبادة التي هي في هذه الغاية من الأهميّة جعلت شرطاًللاعتكاف؛ولذا قيمة الاعتكاف لدرجة أن واحد من أبرز أركان الدين أصبح شرطه! فكما أنّ الصلاةلا تتم بدون طهور ـ أي: «لا صلاة إلّا بطهور» [4] ـ،فالاعتكاف أيضاً لا يصح إلّا بصوم ـ أي: «لا اعتكاف إلاّ بصوم» [5] ـ، وهذا من كلمات الأئمّة الأطهار (سلام الله عليهم) الرفيعة.
لا توجد زاوية في هذا الكون تخلو من المخاطر الكثيرة أو القليلة
والقلب لا ينعم بالسكينةوالاستقرار إلّا في حریم الحقتعالى [6]
* المصدر: كتاب «حكمة العبادات» لسماحة آية الله العظمى الجوادي الآملي، ص 182.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة (2): الآية 125.
[2] المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 16، ص 313، ح 1.
[3]الكليني، الكافي (ط ـ الإسلامية): ج 2، ص 18، ح 1.
[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة (ط ـ آل البيت عليهم السلام): ج 1، ص 365، ح 960.
[5] الكليني، الكافي (ط ـ الإسلامية): ج 4، ص 176، ح 2.
[6] هیچ كُنجی بی دد و بی دام نیست جزبهخلوتگاهحق،دلرامنیست
لا توجد زاوية تخلو من الحيوان المفترس أو الأهلي والقلب لا ينعم بالاستقرار إلّا في حریم الحق