موقع إسراء الرسميّ: قد عرّف المفسّر الكبير للقرآن الكريم في قسم من كتاب «الحكمة النظريّة والعمليّة في نهج البلاغة»، وبنقل من مولى المتّقين نفسه (سلام الله عليه)، أنّ أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) هو القرآن الناطق والمتكلّم باسم الوحي، وقال:
يقول أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه): القرآن لا ينطق، استنطقوا القرآن، فهو لن ينطق، ولكن أنا الناطق باسم القرآن! وأنا مَنْ ينطق من ناحية القرآن، وأنا مَنْ يجعل القرآن ينطق؛ العلم بالمستقبل، والحديث عن الماضي، ودواء الآلام، ونظم أُمور حياتكم كلّها في القرآن.
كما وقد عرّف أميرالمؤمنين (سلام الله عليه) نفسه على أنّه الناطق باسم الوحي، وقال: القرآن الكريم ـ وهو كلام الله ـ يحتوي على أسرار العالم ولا ينطق، وأنا مَنْ يجعل القرآن ينطق، وأعرّف نفسي بعنوان الناطق باسم الوحي: «ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوه، ولَنْ يَنْطِقَ، ولَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْه: أَلَا إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا يَأْتِي، والْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ» [1[.
يعتبر أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) القرآن مظهراً من مظاهر العلم الإلهي، لكن الناس لا يرون هذا التجلّي الإلهي؛ يقول (سلام الله عليه): «فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَه فِي كِتَابِه مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْه بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِه» [2].
الله سبحانه وتعالى هو الناطق بهذا الكلام! ولقد تجلّى هذا المتكلّم وظهر للمستمعين في كلماته، والقرآن هو صفة الفعل لله تعالى، وظهور فعل الله هو ما يأتي من ظهور صفة الذات، وذلك أيضاً من ظهور الذات (مقام الفعل بعيداً عن مقام الذات بعدّة مراتب). القرآن هو مجلى الفعل ومظهر أوصاف الله تعالى؛ يقول: إنّ الله قد تجلّى للناس في القرآن وهم لم يروه، وقد أظهر قدرته للناس ولكن الناس لا يرونه، وهناك حاجة إلى مَنْ يطلع على مجلى وظهور قدرة الحق ويتحدّث به للناس.
يعتبر هذا الحكيم المتألّه أفضل طريقة للتعريف بأمير الكلام (سلام الله عليه) هي الاستفادة من كلماته، وقد نص هكذا:
في التعريف بأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) ـ الحكيم في كلّ من الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة ـ، يجب الاستفادة من كلمات ذلك الإمام نفسه (سلام الله عليه)؛ فهو (سلام الله عليه) يعرّف عن نفسه وسائر أهل بيت العصمة والطهارة (سلام الله عليهم) بأنّهم ينبوع الحكمة المتدفق، حيث يقول: «نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، ومَحَطُّ الرِّسَالَةِ، ومُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ، ومَعَادِنُ الْعِلْمِ، ويَنَابِيعُ الْحِكَمِ» [3]؛ أي: نحن شجرة النبوّة، وشجرة النبوّة متجذّرة في سلالتنا، وفيض الرسالة ينزل على هذه الأسرة، وملائكة الله سبحانه وتعالى تهبط إلى سلالتنا وتصعد، ونحن معادن العلم! وينابيع الحِكَم؛ وبشكل عام، إذا كان هناك علم، فإنّ مركز ذلك العلم هو أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولاده (سلام الله عليهم أجمعين)، وإذا كان هناك حكمة، سواء كانت نظريّة أو عمليّة، فهي في هذه الأسرة.
«مَا شَکَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِیتُهُ» [4]؛ أي: منذ تلك اللحظة التي أظهروا لي الحق فيها وأصبح الحق مشهوداً لي، لم أشك فيه، وبحسب هذه الجملة التي قال: «فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ» [5] أي: لقد ولدت على فطرة التوحيد، فهو (سلام الله عليه) لم يشك في الحق منذ اللحظة التي أظهروا له الحق فيها، سواء كان الحق في الحكمة النظريّة أو الحق في الحكمة العمليّة.
يقول أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه): أنا من الجماعة التي قلبها في الجنّة وجسدها يعمل.
وقد عرّف أُستاذ الحوزة العلميّة البارز، سيماء أميرالمؤمنين (سلام الله عليه) في البُعد الإعتقادي، والأخلاقي، والعملي، بأنّه سيما الصدّيقين، وقد استند في هذا الأمر إلى أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة (سلام الله عليهم)، حيث جاء فيها: «وإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لَائِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ»؛ أي: سيمائنا سيما [6] الصدّيقين، وهم الصادقون من حيث الإعتقاد، والأخلاق، والعمل؛ وقد رسخ الصدق وأصبح ملكة بالنسبة لهم في هذه الأقسام الثلاثة.
«وكَلَامُهُمْ كَلَامُ الأَبْرَارِ» (وقد ذكر القرآن الكريم «الأبرار» بأوصاف معيّنة).
«عُمَّارُ اللَّيْلِ ومَنَارُ النَّهَارِ»؛ أي: يحيون الليل ويعمرونه، وليلهم معمور، لا قاحل و لا خراب، ولا يقضون الليل نائمين حتّى يفسد ويخرب، ومَنْ كان نائماً فلا يكون عنده ليلة مفعمة بالحياة والإزدهار:
الحمد لله أنّ بكاء الليل والسحر لم يهدر
وتحوّلت دموعنا إلى جواهر ثمينة وفريدة من نوعها [7]
إنّهم يحيون الليل، فإحياء الليل، وحياة الليل، وعمارته، يجعل النهار أكثر إشراقاً وضياءاً: «ومَنَارُ النَّهَارِ»، فضياء النهار هو بواسطة هؤلاء ذوو الضمير المستنير؛ الطبيعة تضيئها الشمس، لكن المجتمع البشري ينير من قِبَل أولياء الله، فهؤلاء يضيئون النهار، ويحيون الليل ويجعلونه مزدهراً، ويلمعون الزمان، ويباركون الأرض.
«مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ»؛ أي: يتشبثون بحبل القرآن [8].
«يُحْيُونَ سُنَنَ الله وسُنَنَ رَسُولِه»؛ أي: أنا من الجماعة التي تحيي سنن الله وسنن رسوله، وتحيي الأحكام والقوانين الإلهيّة.
«لَا يَسْتَكْبِرُونَ ولَا يَعْلُونَ، ولَا يَغُلُّونَ ولَا يُفْسِدُونَ»؛ أي: ليسوا من أهل الكبر، والاستعلاء، والعدوان، والفساد.
ثمّ يقول (سلام الله عليه) في نهاية الخطبة:
«قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ» [9]؛ أي: قلوبهم في الجنّة وأجسادهم تعمل وتجهد، وأرواحهم في ذلك العالم وأجسادهم في هذا العالم؛ وهذا يعني أنّهم الآن في الجنّة، وفي نفس الوقت الذي يعمل فيه جسدهم، تتنعم أرواحهم في الجنّة.
وعن كون أميرالمؤمنين (سلام الله عليه) من أتباع الوحي الحقيقين، ولم يبتعد عن طريق الوحي لحظة قط، يقول:
«انِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله ولَا عَلَى رَسُولِه سَاعَةً قَطُّ»؛ أي: لم أقف لحظة أمام أمر الله وقيادة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولم أرفضهما، بل كنت مطيعاً محضاً.
وفي ختام هذه الخطبة يقول (سلام الله عليه):
«فَوَ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ»؛ أي: أُقسم بالله أنّي على طريق الحق وعلى جادّة الحقيقة.
«وإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وأَسْتَغْفِرُ الله لِي ولَكُمْ» [10]؛ أي: أولئك الذين يخالفون، هم على مزلّة الباطل، وأنا على طريق الحق والحقيقة الثابت والمستقر.
ما قيل، نماذج مختصرة من التعريف بأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) على لسان ذلك الإمام نفسه (سلام الله عليه)؛ طلعت الشمس وهي دليل على الشمس [11]؛ فشخصيّة مثل أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) يجب التعريف بها عن طريق الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو عن طريقه هو (سلام الله عليه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: كتاب «الحكمة النظريّة والعمليّة في نهج البلاغة» لسماحة العلّامة الجوادي الآملي، ص 41.
[1] ـ نهج البلاغة، الخطبة 158.
[2] ـ نهج البلاغة، الخطبة 147.
[3] ـ نهج البلاغة، الخطبة 109.
[4] ـ نهج البلاغة، الحکمة 184.
[5] ـ نهج البلاغة، الخطبة 57.
[6] ـ «سیما» يعني العلامة ولا يعني الوجه، «سمة»: يعني العلامة؛ «موسوم» يعني ذو علامة.
[7] ـ گریه شام و سحر شکر که ضایع نگشت قطره باران ما گوهر یک دانه شد
[8] ـ لقد تمّ شرح وبيان أنّ القرآن هو الحبل الإلهي ويجب التمسك به بصورة مبسوطة في أبحاث التفسير الموضوعي للقرآن.
[9] ـ نهج البلاغة، الخطبة 192.
[10] ـ نهج البلاغة، الخطبة 197.
[11] ـ آفتاب آمد دلیل آفتاب