موقع إسراء الرسميّ: في تاريخ: 3 يناير 1989 (25 جمادي الأوّل 1409) تمّ نشر الرسالة الشهيرة والتاريخيّة للإمام الخميني (رح) إلى غورباتشوف آخر رئيس الجمهوريّة للإتحاد السوفيتي، بخصوص موت الشيوعيّة وضرورة تجنّب الإتّکاء على الغرب.
أُبلغت هذه الرسالة إلى غورباتشوف بواسطة وفد رفيع المستوى برئاسة عالم ديني مطّلع على القضايا السياسيّة والدينيّة سماحة آية الله العظمى الجوادي الآملي، وتمّ شرحها وتبيينها له. تمّت كتابة هذه الرسالة في ظروف كان فيه المحلّلون السياسيّون يلاحظون طلبيّة إعادة النظر وبداية تطوّرات الشيوعيّة، لكنّهم لم يتمكّنوا من إبداء النظر حول هذا، ومع ذلك لم يكتف القائد الکبير للثورة الإسلاميّة بإبداء نظر صريح على تطوّرات العالم الشيوعي، بل قال أيضاً: من الآن فصاعداً يجب البحث عن الشيوعيّة في متاحف التاريخ السياسي للعالم.
وفيما يلي هو وصف هذه الرحلة التوحيديّة على لسان آية الله العظمى الجوادي الآملي:
ابتداءاً، أُشير إلى حديث عن الرسول الأکرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «العلماء ورثة الأنبياء» [1]؛ علماء كلّ عصر ليسوا فقط ورثة نبيّ ذلك العصر، بل حيث أنّ كلّ نبيّ يصدّق النبيّ السابق ويتمّم رسالته، فهم أيضاً ورثة الأنبياء السابقين. وهذا الموضوع مرئي في شكل أكثر وضوحاً بالنسبة إلى علماء العصر الحالي کورثة الرسول الأکرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهو أيضاً آخر وريث أنبياء السلف وله أكمل رسالة، وهؤلاء العلماء قد يلعبون دور جميع الأنبياء السلف کإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وعيسى المسيح، وما إلى ذلك في المجتمع.
وقد أكّد القرآن الكريم في إشارته إلى رسالة سليمان النبيّ (عليه السلام): ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [2] على مسألة الدعوة إلى الإسلام من خلال إرسال الرسول والرسالة، ولقد عمل الإمام الخميني (قدّس سرّه) مراراً بهذا التأكيد في القرآن الكريم واختار منهج النبيّ سليمان (عليه السلام) كإحدى طرقه التبليغيّة وبهذه الطريقة أثبت أنّه وريث الأنبياء السلف (عليهم السلام).
فالإمام الخميني (قدّس سرّه) قبل انتصار الثورة الإسلاميّة کان يدعوا الناس في رسائله إلى الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الأحسن، وإقامة حكومة إسلاميّة، ولعبت هذه الرسائل دوراً بالغ الأهميّة في انتصار الثورة؛ وبعد انتصار الثورة أيضاً قد واصل هذا العمل وکان يدعوا الجميع لنفس تلك الأُمور، ولم يقتصر في هذا الأمر على حدود البلاد فقط، بل کان يرسل رسائله إلى خارج الحدود أيضاً؛ لأنّ الإسلام ليس ديناً يمكن تحديده وحصره، وكما أنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) ﴿لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [3]، يجب على العلماء أيضاً أنْ يوجّهوا تبليغهم إلى جميع أنحاء العالم.
وكانت رسالة الإمام لنفس الغرض؛ لقد أدرك سماحته مأزق الشيوعيّة، وبإعلان ذلك، خلق أرضيّة للتأثير ثمّ أبلغ رسالته. إنّ احتمال التأثير مهم جدّاً؛ لأنّ إرسال الرسالة مفيد عند ما يكون هناك احتمال لحدوث تأثير؛ لذلك، سأل سماحته عن إمكانيّة تأثير الرسالة عند العودة من رحلتنا إلى موسكو.
النقاط الإلزاميّة في إبلاغ الرسالة
من أجل إبلاغ رسالة الإمام (قدّس سرّه)، تمّ التأكيد على أنّ الوفد المُرسل يجب أنْ يراعي عدّة أُمور:
1ـ إخفاء محتوى الرسالة حتّى إبلاغها؛ لذلك، على الرغم من كلّ القوّة التي کانت لدى أنظمة المعلومات الخاصّة بهم، لم يتمكّنوا من معرفة محتويات الرسالة، فهم قد افترضوا قضايا مختلفة مثل القرار، والحرب، والسلام، وما إلى ذلك؛ ومع ذلك، كان الموضوع الرئيسي للرسالة هو الدعوة إلى الإسلام.
2ـ مراعاة الأدب والإحترام؛ وهذا من أوامر الإسلام، ولا سيّما في مجال الوعظ والتبليغ، وسلوك المعصومين (عليهم السلام) في هذا السياق تعليميّاً للغاية؛ كان الإمام الصادق (عليه السلام) يراعي الأدب في جميع الأُمور من قول وسلوك وكتابة، في قبال اليهود الذين كانوا ألد أعداء الإسلام، ويقول: «إنْ جالسك یهودي فَأحسنْ مجالسته» [ 4]؛ أي: إذا حاورك اليهودي وجالسك، عامله بلطف واحترام.
3ـ عدم التأثير من عظمة قصر الكرملين وزعيم الاتحاد السوفيتي؛ لأنّنا كنّا حاملي رسالة قيّمة جدّاً، أرسلت من قِبَل رجل رفيع المستوى، وكان علينا أنْ نتصرّف بصلابة لئلّا يوجد أدنى شعور بالحقارة لدى أعضاء الوفد؛ بعبارة أُخرى، لا يمكن إبلاغ القول الثقيل بـ ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [5] ولا يمكن اصطحاب هذه الرسالة والكلام الصعب والجاد بروح بسيطة وصغيرة.
4ـ قراءة الرسالة لغورباتشوف نفسه حتّى لا يقول: إنّني سأقرأ الرسالة لاحقاً أو في وقت آخر؛ كان من الضروري قراءة الرسالة وترجمتها جملة تلو الأُخرى بحيث إذا احتاجت إلى تفسير أو حجّة، فسيتم تقديمها على الفور، وبالإضافة إلى النص الأصلي للرسالة الذي كتبه الإمام نفسه، كانت هناك أيضاً ترجمة باللغة الإنجليزيّة لها؛ لأنّه على الرغم من أنّ المخاطب الأصلي للرسالة كان زعيم الاتحاد السوفيتي، إلّا أنّ رسالة الإمام لم تكن موجّهة إليه فحسب، بل تمّ إبلاغها لإقليم أوسع.
دخول موسكو وإبلاغ الرسالة
في تمام الساعة الحادية عشرة من يوم الأربعاء 4 يناير 1989 (26 جمادي الأوّل 1409)، التقى الوفد الإيراني المكون من ثلاثة أعضاء، إلى جانب سفير الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة بالرئيس السوفيتي في موسكو، وقد حضر في هذا اللقاء، بالإضافة إلى غورباتشوف، وزير الخارجيّة السوفيتي، والمترجم، ومراسل واحد حيث کان يعدّ تقريراً للحزب.
لقد رحبوا بالوفد الإيراني بکلّ أدب واحترام، وبعد الإطراءات المعتادة التي استمرّت قرابة خمس دقائق، قد صرّح السيّد غورباتشوف في البداية: نحن بما أنّنا نملك أفكار مختلفة، يمكننا أنْ نعيش حياة سلميّة معاً، وبما أنّكم أتيتم لنقل رسالة مهمّة، فلن آخذ وقتكم وأعطيكم الفرصة.
وقد بدأ الوفد الإيراني الحديث بهذه الجملة: نبارك لكم ميلاد واحد من أعظم أنبياء الله، وبهذه المناسبة نقرأ لكم رسالة أحد القادة الإلهيّين.
ونظراً إلى أنّ محتوى الرسالة كان ذا أهميّة كبيرة، فقد تمّ قراءة الرسالة لهم بالتأنّي وجملة تلو الأُخرى حتّى يتمّ نقل المحتوى بشكل جيّد؛ حتّى في بعض الحالات، وبناءاً على طلب المترجم، كانت تكرّر الجملة له لكي يفهم المحتوى بشكل صحيح وينقله كذلك إلى السيّد غورباتشوف. استمرّ أمر قراءة الرسالة وترجمتها لمدّة ساعة، وخلال هذا الوقت كان غورباتشوف يستمع بأدب، وفي موردين من الرسالة فقط، تغيّر لون وجهه وتحوّل إلى اللون الأحمر؛ كان أحدهما في جزء من الرسالة حيث قال الإمام: من الآن فصاعداً يجب أنْ نرى الشيوعيّة في متاحف التاريخيّة للعالم و... وکان هو أيضاً في أثناء قراءة الرسالة يسجّل بعض الموضوعات، وبعض الموضوعات الأُخرى کان يتمّ تسجيلها من قِبَل نوابّه ومساعديه.
كما قيل آنفاً، كانت رسالة الإمام (قدّس سرّه) دعوة إلى الإسلام، ولم يرد فيها ذكر لقضايا سياسيّة كموضوع القرار أو وقف إطلاق النار أو... وفقط في جملة واحدة تشير إلى موضوع أفغانستان قال: إذا عرفتم الإسلام فلن تفكّروا في أفغانستان بهذه الطريقة وستعيدوا النظر؛ وقد أشار هذا الموضوع أيضاً بطريقة ما، إلى نفس عينيّة السياسة والديانة التي كان الإمام (قدس سرّه) وفيّ لها.
وفي نهاية الرسالة قال الإمام الراحل، وهو يؤكّد على قوّة الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة كقاعدة عالميّة للإسلام: ما زلنا نؤمن بالحياة السلميّة والعلاقات المتبادلة ونحترمها.
رد فعل غورباتشوف
بعد الانتهاء من قراءة رسالة الإمام (قدّس سرّه) وترجمتها، أشاد السيّد غورباتشوف أوّلاً بهذه الرسالة وأعرب عن استعداده لإرسال إجابة، وقال: سنصلح بعض أخطاء الماضي حتّى لا نبتلي بها مرّة أُخرى، وأيضاً فيما يتعلّق بحريّة الأديان، فنحن بصدد إقرار قانون، وأضاف أيضاً: كما قلت في ابتداء کلامي: يمكننا أنْ نعيش معاً حياة سلميّة مع وجود مکاتب وأفكار مختلفة، ثمّ بينما كان يعبّر عن هذه النقطة بأنّه نحن أيضاً لدينا مکتباً وفكراً ورأياً، قال بمزاح وضحك: اتّضح أنّ الإمام لا يحبّ أيديولوجيتنا، هل يمكننا أيضاً دعوته إلى مکتبنا؟ لكنّه أكّد لاحقاً مرّتين أنّ كلامه الأخير لم يكن جاداً.
وبعد أنْ أنهى غورباتشوف حديثه، شكره الوفد الإيراني على خطابه وعلى الإستماع إلى الرسالة وترجمتها لمدّة ساعة وبضع دقائق.
ولكن فيما يتعلّق بأهم تصريح للسيد غورباتشوف ـ أي: عدم التدخّل في الشئون الداخليّة لأيّ بلد ـ، فقد أُجيب عليه هکذا: بصفتك زعيم للإتحاد السوفيتي، فأنت حرّ في فعل أيّ شيء من أعماق تراب هذا البلد إلى مرتفعات سماء هذه الأرض والحدود؛ لأنّ البلد ملك لكم؛ لكن هذا القائد الإلهي (الإمام الخميني «قدّس سرّه») لا علاقة له بماء بلادكم، ولا ترابها، ولا سمائها، بل كلمته موجّهة لأنفسكم. سيد غورباتشوف! هل أنت بعد الموت، مثل الشجرة التي تجف بعد ستين أو سبعين سنة أو مثل الطائر الذي فتح له باب القفص بعد فترة طويلة ويتمّ تحريره إلى الأبد؟ كلام هذا القائد الإلهي هو أنّ الموت ليس نهاية الأمر، بل هو أنت وأبديّة أفكارك وأفعالك وصفاتك التي يجب أنْ تفكّر فيها، أنت تعتقد أنّ الموت يساوي الهلاك والإضمحلال؛ لكنّ القادة الإلهيّين يقولون: إنّ الموت هو حياة جديدة.
هذه الكلمات قدّمت على أنّها آخر كلمات للوفد الإيراني، وقد انتهى اجتماعنا الذي استمر ساعتين، وعند التوديع للمغادرة قلنا: الله يحفظكم، وفقكم الله. قال السيد غورباتشوف: «شعبنا يقول: العمل» وأجبنا نحن أنّ شعبنا قال: الهي، ننهض برجائك، وقد نهضوا وأوقفوا القوى الكبرى على حدّها!
كانت إحدى أعضاء الوفد الإيراني سيّدة محترمة لها تاريخ من النضالات السياسيّة وكانت أيضاً عضواً في مجلس الشورى الإسلامي، عند ما عرّفها السفير الإيراني لغورباتشوف، تفاجأ جدّاً من أنّ امرأة في النظام الإسلامي الإيراني يمكن أنْ تتحمّل مسئوليّة اجتماعيّة ونشاطاً اجتماعي بهذا المستوى.
وبهذه الطريقة انتهت رحلتنا إلى موسكو التي استغرقت يوماً واحداً بنجاح، وكان استقبال الوفد الإيراني ومغادرته سواء في الاجتماع مع غورباتشوف أو في المطار ودوداً ومليئاً بالأدب والإحترام؛ عند ما وصلنا إلى مطار موسكو، جاء لاستقبالنا وکيل غورباتشوف نفسه، ونائب وزير الخارجيّة، وأيضاً إمام صلاة الجمعة في موسكو ـ وللأسف كان ينتسب إلى الحزب ـ، وبينما كان الثلج يتساقط بكثافة، رافقونا إلى المدينة التي كانت على بعد 40 كيلومتراً.
المصدر: مهر استاد ص 206 - 212
الهامش.......................................
[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج 1، ص 164.
[2] سورة النمل (27): الآية 30 ـ 31.
[3] سورة الفرقان (25): الآية 1.
[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج 78 ، ص 188.
[5] سورة القلم (68): الآية 9.