موقع إسراء الرسميّ: يوم «19 من شهر دي [هجري شمسي]» هو تذكير بالملحمة العظيمة والمجيدة التي کشفت صفحة أُخرى في الكتاب الذهبي للثورة الإسلاميّة؛ «19 دي» هو ذکرى الانتفاضة الدمويّة لأهالي قم؛ هو نفس اليوم الذي في ظلمة الاستبداد والظلم، فتح فيه المنافذ نحو النور، وقد شكّل مسار الثورة بطريقة اختُتمت لفافة ألفين وخمسمائة عام من النظام الإمبراطوري في فترة زمنيّة قصيرة. نحتفي بهذا اليوم العظيم الذي لا يُنسى ونرسل تحيّاتنا للشهداء والمضحّين في هذه الملحمة الخالدة.
إنّ كلمة «الوقوف (الصمود) والمقاومة» في المنظومة الدينيّة للمسلمين الأحرار في العالم هي برمجة مألوفة بتعاليمهم الدينيّة حتّى يتمكّنوا من الدفاع عن حقوقهم بإستعمالها ضد هجمات المتعجرفين وغطرستهم. كما وقد شرح سماحة العلّامة الشيخ عبدالله الجوادي الآملي المسار والاتّجاه الصحيحين لهذا التعليم الديني في تأليفاته المختلفة، وقال:
استعمال تعبير «الوقوف» لغرض أنّ الوقوف هو أفضل وضع للدفاع ولأيّ حركة ونشاط، وإلّا فإنّ معارضي الباطل هم واقفون في کلّ الأحوال (سواء في حالة القعود، أو في حالة الاضطجاء، وما إلى ذلك)، والهاربون من الحقّ هم جالسون في کلّ الأحوال، بل هم مقعدون عاجزون.
من منظور القرآن الكريم، يجب أنْ يكون الوقوف (الصمود) والمقاومة لله حتّى يجدا قيمة، وإلّا فإنّ الأشخاص الذين ليس لهم دين أيضاً يقفون (يصمدون) في وجه المعتدين لحماية أرضهم ومياههم، ولن يستسلموا؛ والحال أنّهم يخضعون لحكومة غير إلهيّة، فمن الممکن أنْ يقف (يصمد) هؤلاء ضد الغزاة لأرضهم ومياههم، لكنّهم مقعدون عاجزون في قبال المؤمنين الملتفّين حول العدل.
واعتبر سماحته أنّ الشرط الأساسي للنضال في سبيل الله هو تجارة الدنيا بالآخرة، والشرط الوحيد للجهاد هو ترك الدنيا، وقال: للنضال في سبيل الله شروط ومبادئ لابدّ من تحصيلها، وله أيضاً موانع ودوافع لابدّ من تجنّبها، ولكن أهم أركان الجهاد وشروطه الأساسيّة هو تجارة الدنيا بالآخرة (أي: بيع الدنيا وشراء الآخرة). بالطبع، المقصود بالدنيا ـ وهي أصل كلّ خطيئة ـ، هو التوجّه إلى غير الله؛ لأنّه كما أنّ للآخرة درجات وبعضها أعلى من بعضها الآخر، فإنّ للدنيا أيضاً درکات وبعضها أدنى وأحقر من بعضها الآخر، والشرط الأساسي للجهاد في سبيل الله هو الاجتهاد في تمييز الدنيا بكلّ ما فيها من درکات، وتمييز الآخرة بكلّ ما فيها من درجات، ومن ثمّ التوجّه نحو التجارة، وافتقاد الدنيا ـ وهو في الواقع التخلّص من درکاتها ـ، واكتساب الآخرة ـ وهو في الواقع الوصول إلى درجاتها ـ. الآیة 74 المباركة من سوره النساء تشرح هذا السرّ المکتوم، وتقول: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي: أنّ على مَنْ باع الدنيا بالآخرة أنْ يقاتل في سبيل الله، وكلّ مَنْ يقاتل في سبيل الله لأجل هذه التجارة، أمامه طريقان: أحدهما الاستشهاد، والآخر هو النصر، وليس هناك طريق ثالث يسمّى التسوية والإستسلام ونحو ذلك بالنسبة له.
«التخلّي عن الدنيا هو الشرط الوحيد للجهاد والثمن الوحيد للجنّة»
التخلّي عن الدنيا هو الشرط الوحيد للجهاد والثمن الوحيد للجنّة؛ أي: أنّه بدون بيع الدنيا، فإنّ النضال ليس له صبغة إلهيّة ولا يصل إلى إنتصار الحقّ، كما أنّه لا يمكن دخول الجنّة دون ترك الدنيا. قال أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان مؤهّلاً للجهاد ومؤهلاً للذهاب إلى الجنّة: «طلاق الدنيا مهر الجنّة» [الليثي، عيون الحكم والمواعظ: ص 317، ح 5532].
بالطبع، سيحصل کلّ شخص على الجنّة وفقاً لمقدار الصداق الذي دفعه؛ البعض يتخلّى عن لذائذ الدنيا من أجل الوصول إلى التمتع الحسي أو الخيالي أو العقلي بالجنّة، لكن البعض الآخر يتخلّى عن كلّ اللذّات من أجل الوصول إلى اللذّات الإلهيّة؛ الزهّاد والعبّاد والعرفاء في هذا المجال أيضاً ـ کسائر المجالات ـ ليسوا متماثلين، كما أنّ العرفاء أنفسهم أيضاً لن يكونوا متماثلين تماماً، فقهراً جهاد الزهّاد يختلف عن حرب العبّاد، ونضال هاتين المجموعتين يختلف عن مجاهدة العرفاء، كما أنّ جهاد العرفاء أيضاً له درجات عديدة بحسب اختلاف رتبهم العرفانيّة.
وقد عدّ هذا الحكيم المتألّه انتفاضة الأنبياء ومبادرتهم العمليّة بعد أنْ فقدوا الأمل من تأثير الحجج العلميّة ضد الشرك والكفر كمثال آخر على واجباتهم، وقال:
فلو كان الواجب الوحيد للأنبياء (عليهم السلام) هو تبليغ الأحکام فقط ولم يكن عليهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسئوليّة تنفيذ الأحکام، فلم تكن هناك حاجة للقتال مع المشركين وإعلان البراءة والإنزجار منهم؛ بينما کان الأنبياء يتبرّؤوا في بعض الأحيان بمفردهم، وأحياناً مع أتباعهم من عبادة الأصنام وما شابه ذلك، وهذا کان بمنزلة موقف سياسي وقرار ضدّ سائر المفکّرين الآخرين ذات السلوك السيّء؛ كما أنّ النبيّ إبراهيم (عليه السلام) بعد أنْ فقد الأمل من تأثير الحجج العلميّة، استخدم الفأس في ساحة النضال العملي؛ إذا كان شخص ما غير مسئول عن تنفيذ الأحکام، فلا يمكنه أنْ يستخدم الفأس ويعرّض نفسه لأقسى عقوبة من الناس ـ أي: خطر التعرّض للإحتراق ـ: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [سورة الأنبياء (21): الآية 68]. إنّ الانتفاضة على الكفر، والإلحاد، والظلم، واتخاذ إجراءات عمليّة بدافع محو نظام الفساد والظلم، وإشاعة العدل، من المصاديق البارزة للزعامة السياسيّة والإجتماعيّة؛ طبعاً كما ذكرنا سابقاً، من الممكن أنّه مع اكتمال نصاب الحجّة وتعيين أحد الأنبياء (عليهم السلام) للإمامة والزعامة السياسيّة والإجتماعيّة، فقد يكون بعض الأنبياء الآخرين مسئولين عن التبليغ، ومنصوبين للتبيين والتعليم فقط.
---------------------------------------------------------
المصادر: تفسیرتسنیم، المجلد 11.
کتاب «حماسه وعرفان».