موقع إسراء الرسميّ ـ خدمات الدين والفكر: السابع والعشرون من شهر رجب هو ذكرى بعثة خاتم الأنبياء، وذكرى نزول كلمات الوحي المنيرة على قلب نبيّ الرحمةمحمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛ وبهذه المناسبةنستفيض من بيان العلّامة الشيخ عبدالله الجوادي الآملي وبنانه بشأن تأثير البعثةالنبويّة على الثقافة والحضارة الإنسانيّة.
قال آية الله العظمى الشيخعبدالله الجوادي الآملي في تبيينه لعناصر العلم المحوريّة في الساحة النبويّة: عندما أشرقتالبعثة النبويّة على العالَمين: الأرضي والسماوي، فإنّها أضاءت وكشفت عناصر العلم المحوريّة ـوهي مجموع المسائل المرتبطة ببعضها البعض ـ،وكذلك أسرار المعلوم،للعالِم؛بحيث كشف:
1ـأنّ المعلوم: مثل الأرض، والموجودات والكائنات الأرضية والسماوية كلّها مخلوقات وليست بطبيعة.
2ـ وأنّ العلم: مثل الإطلاع على سر ورمز كلّ جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان، ومَلَك، هوإلهام إلهي وليس بمعطيات بشريّة.
3ـوأنّ العالِم: مثل المفكّر الحوزوي [المفكّر في العلوم الدينيّة]أو المفكّر الجامعي، هو عبد الله وخليفته، ومتغذّي من مائدته، ومتنعّم من مأدبته.
وقد بيّنسماحته أنّ التوحيد هو أساس للعلم الإسلامي، وقال: إنّ هذه الإضاءة الشاملة هي الأثر الأوّل لنور البعثة النبويّة التي فسّرت هذا المثلّث المبارك جيّداً حتّى يجد العالِم الحوزوي [العالم في العلوم الدينيّة]والعالِم الجامعي قبل أيّ بحث أنّه يتنفّس في الهواء الخالي من الهوى، وهو يطير في فضاءمن دونهوس، ولا يعتبر المعرفة ـ وهي هبة إلهيّة ـ علمانيّة، ويعتبر العلم في نطاق الدين فقطولا غير؛ لأنّمعرفة الخلقة ـ وليس معرفة الطبيعةـ هي إسلاميّة، والعلمـ الذي هو سيرٌ من المعلوم إلى المجهول ـ هوإلهام إلهي وإسلامي، والعالِم ـ الذي هو خليفة الله ويسعى لكشف أسرار أفعاله ـ هو عبد الله، ومثل هذه المعرفة هي إسلاميّة فقط، ولا مجال للعلمانيّةفي هذا التثليث التوحيدي قطّ؛ لأنّ صدر وجذع هذا المُضَلَّع الميمون يوفرهما اسم الله وذكراه.
وقال سماحته في بيانه عن حريّة العلم، والمعلوم، والعالم في ضوء البعثة النبويّة: إنّ أهم تأثير البعثة النبويّة ـ وهي نور الله الخاص ـ هو التحرّر من ثوب الاسترقاق؛كلّ ما هو ملوّث فهو رهين تلك المشوبية، وكلّ ما كان مرهون لآخر حيث أنّه ليس حرّاًفليس لديه القدرة على منح الحريّة؛وكما أنّ الإنسان العالِم هو عبد الله، فهذه العبوديّة تجلب الحريّة من أيّ لون من التعلّقـبل أيّلون من التعيّن ـ، وهذه الحريّة هي نتاج البعثة النبويّة، ويتحرّر العلم والمعلوم أيضاً في ضوء إنارتها،وبتحرير العالِم من رهن الطمع ورهن الأماني المضرّة، يتحرّر العلم من قيود البشريّة ومن قيود المصادرة المشئومة؛ لأنّ العالِم الذي يعتبر العلم إنجازاً خاصّاً به، ويسجّله باسمه، وينسج مثل قارون هكذا: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾[1]، ولو أنّه يتكلّم بلغة إسلاميّة ولكنّه يفكّر بصورة قارونيّة، والعلم الذي هو هبة من الله،حينما يصادر باسم البشريّة، يتصرّف بمطلق العنان: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾[2]، ويدّعي الاستقلال، ويقف ضد الدين، وإنْمَنّ وأراد أنْ يتكلّم بتواضع، يقول هكذا: العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى.
واعتبر سماحته أنّ انتشار المعرفة هو أبرز أثر للبعثة النبويّة، وقال: من أبرز آثار البعثة النبويّة على الثقافة والحضارة هو انتشار المعرفة في المجتمعات البشريّة، حيث أنّ الله سبحانه وتعالى قد عرّف رسولهالأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنّه معلم الكتاب والحكمة: ﴿...وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[3]، واعتبر رسولُ الله(صلّى الله عليه وآله وسلم)أنّ اكتساب العلم أمرضروري،وبيّن الفنون المختلفةللمعرفة اللازمة، وقال: «إنّما العلم ثلاثة: آیة محكمة،أوفریضة عادلة،أوسنّة قائمة» [4]، وقدقام بشكل مباشر أو غير مباشر بإدراج جميع العلوم: من العقائد، والأخلاق، والفقه، والحقوق، والفنون الضروريّة والمفيدة للمجتمع في هذا المثلّث، وعرّف نفسه بأنّه مدينة العلم، حيث قال: «أنا مدينة العلم وعليّبابها» [5]، وبمثلهذا التعريف يمكننا أنْ نشير إليه(صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنّه «مدائن العلوم»، كما أنّ القرآن الحكيم الذي هو برنامج تعليمي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد شرح وبيّنالعالم والإنسان والعلاقة العميقة بينهما، وقد اطلع النبيّالأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)على سرّ الصعود ورمز النزولمن خلال تعليم الله العيني والشهودي، والعروج إلى السماء، وزيارة الملك والملكوت،وبطرفة عين أصبح مدرّساً لعلم النجوم لمئات من أمثال «بطليموس»(أو بطلميوس) [6]، ولم يعتبرأبداً مدار النجوم ـ وهو موضوع رياضي ـ،والأجرام الوهميّة والتي لا أساس لهافي الفلك ـ وهي موضوع طبيعي ـ، شيئاً واحداً، ولم يعتبر الكواكب السابحة والعائمة راكدة،ولم يدمّر مثل هذه المدينة الفاضلة بمثل هذه الأفكار.
واعتبر آية الله العظمى الجوادي الآملي أنّ ازدهار العقل هو نتاج البعثة النبويّة، وقال: إنّ التأثير العميق للبعثة على الثقافة البشريّة بعد شفافيّة نظام الخلقة، هو إثارة دفائن عقول البشريّة وازدهارها: «وَیثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ» [7]،ومع بروز الدفائنالفكريّة يزداد رأس مال التدبّر في المتون النقليّة، وفي ضوء زيادة رأس المال هذا يتمّإثارةدفائن النقول بشكل أفضل، ويكون هناك إثارة متقابلةدوماًبين صفاءالعقل ومروةالنقل، ويصل الابتكار إلى ذروته، وبالتعاضد المتعادل بين هذين الجناحين لدجاجةِ حديقةِ الملكوت، لم يكن هناك مجال للجدال الفاشل بين «جاليليو» (أو غاليليو) [8] والكنيسة، ولا مجال لفكرة فصل العلم عن الدين؛ لأنّ العلم العقليـ مثل المعرفة النقليّة ـ هو كاشف عن الدين، وليس ضد الدين؛كما أنّه لن يكون ذريعة لفصل العقل البرهاني ـ الذي تبلور في شكل الفلسفة الإلهيّة ـ، عن النقل المعتبر ـ الذي يتخذ في شكل انطباعات المخاطبينالمتنوعة عن العلوم الوحيانيّة ـ؛لأنّ جميع العلوم العقليّة والنقليّة هي تحت إشراف سلطان المعارف، وهي مشهودات خاتم النبوّة (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته،أهل بيت العصمة والطهارة (سلام الله عليهم)،ولا علم يساوي الوحي، ولا يوجد عالم يعادلالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وذكر سماحته أنّالتأثير البارز للبعثة النبويّة هو إحياء الحضارة البشريّة، وقال:إنّالتأثير البارزللبعثة النبويّة على الحضارة البشريّة هو إحياءها من خلال نفخ روح المعنويّة، وعبادة الله، والابتعاد عن صنم الهوى، وصنم السياسةالباطلة، ووثن التكاثر؛ فالعدل، والحريّة،والأمن ـ وهي من أهم حقوق الإنسان الرئيسيّة ـ كانت ولا تزال في مزاد الأقوياء [المستكبرين]وابتزاز الأثرياء، وحيثما وصلت رسالة التوحيد السماويّة والدعوة الإلهيّةساده الودّ والسلام، وأينما حُرم من بلوغنور الهداية النبويّة ساده القهر والحرب؛ في فضاء الوحي النبوي، الثقة والسلاممشهودان، وفي البيئة المحرومة من إرشاد الرسالة، الخداع والاضطراب محسوسان.
وقال سماحته في بيان كيفيّة إحياء الإنسان في ثقافة الوحي: إنّ سر هذا النجاح المطروح للبعثة هو أنّ الإنسان في مدرسة الوحي مسئول عن كلّ شئونه العلميّة والعمليّة، فرديّاً وجماعيّاً، وكلّأعماله وأفعاله تحفظ ويحاسب عليها، والشيء الوحيد الذي يتورط فيه البشر هو حادثة الموت الرهيبة، وفي التعاليم الدينيّة ثبت تماماً أنّ الإنسان ينتصر في مواجهته مع الموت؛ لأنّه هو الذي يميت الموت ويفنيه، ويحيى إلى الأبد، وعندما يتمّ تفسير الموت على أنّه هجرة وولادة جديدة، فحينئذٍ يفكّر كلّ عاقل في تحصيل زاد سفر عالمه الأبدي؛والنفس الجامدة أو الصلبة لا تُسمى سائلة، بل الروح الفعالة والمتحركة تسمى سائلة، وأفضلزاد للسفر هو التقوى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: ملخص بيانسماحة آية الله العظمى الشيخ عبداللهالجوادي الآملي لمؤتمر «تأثير البعثة النبويّة على ثقافة الحضارة البشريّة»،شهر ارديبهشت من عام 1387 هـ شـ كتاب «سروش هدايت»، المجلد الرابع.
[1] سورة القصص (28): الآية 78.
[2] سورة الروم (30): الآية 41.
[3] سورة البقرة (2): الآية 129.
[4] الكليني، الكافي (ط ـ الإسلامية): ج 1، ص 32، ح 1.
[5] المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 40، ص 206، ح 14.
[6]رياضي وجغرافي وعالِم فلك ومنجم وشاعر يوناني مصري.
[7]المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 11، ص 60، ح 70.
[8]عالِم فلكي وعالم رياضيات وفيلسوف وفيزيايي إيطالي.
[9]سورة البقرة (2): الآية 197.