إنّ عشرة الفجر الميمونة هي تذكير بإسقاط ويأس فراعنة ذلك الوقت على يد رجل الوطن الإسلامي العظيم وبدعم من أهل هذه الأرض الغيارى والطالبين للسعادة؛ هو الذي ـ بالتوكّل على الله تعالى وبالإستعانه منه عزّ وجلّ ـ وضع وجوده في طبق الإخلاص وأتى بشجرة الثورة الإسلاميّة الطيّبة التي سقيت بدماء الشهداء، وثمرتها التي كانت الإستقلال وفخر الشعب الإيراني، وبهذه المناسبة نولّي في هذا المقال الاهتمام بشخصيّة إمام الخيرات في بيان وبنان الحكيم المتألّه سماحة آية الله العظمى الشيخ عبدالله الجوادي الآملي في مختلف الجوانب العلميّة والعمليّة.
ينبغي اعتبار إحدى الأحداث التاريخية التي لا تُنسى في تاريخ الثورة الإسلاميّة ذكرى ورود إمام الأُمّة إلى وطننا العزيز، وهو الذي ركل بمقدمه أصنام العصر الحديديّة وأصبح مظلّة للمؤمنين والمستضعفین في العالم.
يعتقد سماحة العلّامة الجوادي الآملي: أنّ ما صنعه إمام الأُمّة (قدّس سرّه) لم يسبق له مثيل في هذه القرون؛ يعتمد القرآن الكريم على عنصر «الابتكار»، كما إذا كانت هناك مواد فكريّة، ونهض شخص ما أكثر من سائر الناس وقبلهم، وتولّى القيادة الفكريّة والثقافيّة للأُمّة، فلا يمكن للآخرين أنْ يكونوا أقرانه أو نظرائه.
عند ما يتحدّث القرآن الكريم عن المعجزات، فإنّه يشير إلى السبقة وحقّ التقدّم فيها؛ والآن لاحظوا، وانظروا ماذا يقول القرآن الكريم في قضيّة انتصار الحجاز؛ يقول للمسلمين في ابتداء سورة الحشر المباركة: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ﴾ [1] أي: أنّ اليهود الأغنياء والأقوياء كانوا هم القوّة الوحيدة للحجاز، ولا أنتم كنتم تعتقدون أنّهم بخارجين، ولا قصورهم القويّة والمستحكمة كانت تسمح لهم بالاعتقاد بأنّهم سيطردون ويفرّون، لكن قدرة الله تعالى الغيبيّة، ولأوّل مرّة، طردت كل جبابرة شبه الجزيرة العربيّة المنتمين للباطل من الأرض الإسلاميّة بعيداً وجعلتهم يفرّون.
وقد ذكر الله تعالى ثلاث نقاط في هذا الجزء من سورة الحشر المباركة؛ [النقطة الأُولى:] قال: لأوّل مرّة هُزمت اليهود بقدرة «الإسلام»، يعني أنّه من الممكن أنْ يأتي في المستقبل أُناس يكسرون قدرة اليهود، لكن لأوّل مرّة، «الإسلام» فعل ذلك؛ ومن الممكن أنْ يأتي سياسيّون آخرون ويهزمون إسرائيل، لكن لأوّل مرّة «نحن» انتصرنا عليهم وأخرجناهم: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾؛ لذلك، إذا أتى الآخرون في المستقبل وصنعوا مثل هذا العمل، فهم قد تعلّموا منّا، وإذا هزمهم سياسيّون آخرون، فقد تعلّموا طريقة الانتصار منّا، فنحن معلّمو النصر والغلبة ومعلّموا انتصار الآخرين؛ لأنّ هذا العمل قام به الإسلام لأوّل مرّة.
والنقطة الثانية والثالثة لهذه الآية الكريمة هما كما قال: لا الأصدقاء كانوا يظنون أنّ الإسلام سينتصر، ولا الأعداء كان بظنّهم أنّهم سيهزمون: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ﴾، أي: أنتم الذين كنتم أصدقاء لم يكن بظنّكم أنّ القرآن سينتصر، ومن ناحية أُخرى، لم يكن بظن اليهود الأقوياء أنّهم سيطردون ويخرجون مع كلّ ما لديهم من القوى العسكريّة وغير العسكريّة، بل على عكس حسابات الأصدقاء وحسابات الأعداء، ولأوّل مرّة أحيينا الإسلام في الحجاز.
لذلك، فإنّ القرآن الكريم يعتمد على النصر الأوّل والابتكار في الغلبة، ونحن خلال هذه الأربعة عشر قرون كنّا مظلومين، وكانت المظلوميّة مسجّلة لنا، وكنّا نعتقد أنّه يجب أنْ نكون مضطهدين، لكن سليل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الإمام الخميني (عليه آلاف التحيّة) صنع لأوّل مرّة شيئاً لم يكن بظن الأصدقاء ولا الأعداء؛ لذا، إذا جاء قائد في وقت لاحق، واستمر على هذا النحو، وطرد الأجانب من البلدان الأُخرى، فسيكون هو «أُمّة» الإمام الخميني أيضاً؛ إذا كانت الثورة الإسلاميّة في السودان، وفي مصر والجزائر تأتي ثمارها؛ وإذا تغلّب شعب أفغانستان وفلسطين المضحّي؛ وإذا كان المسلمون في أبعد نقطة لعيش البشر قد نجحوا في التغلّب على المستكبرين، فالناس العاديين وقادتهم سيكونون جزءاً من «أُمّة» الإمام الخميني الراحل؛ فالذي أربك لأوّل مرّة معادلات الصديق والعدو هو الفائز بإمامة القرآن الكريم.
لذا، وبعد أنْ تحدّث الله عزّ وجلّ عن ابتكاره لأوّل مرّة، ذكر مَنْ هم مبتكرو الغلبة والمتقدّمين بالنصر، بعظمة، وتحدّث عن المهاجرين بتكريم، حيث قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ...﴾ [2]، كما وقد ميّز في سورة الحديد المباركة بين الثوّار قبل الثورة ومن انضمّوا للثورة بعد الثورة بقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [3].
وكما يوجد فرق بين العالم وغير العالم: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؟ [4] ويوجد امتياز بين القاعد والقائم: ﴿فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ [5]، فيوجد أيضاً تمييز كامل بين الثوّار قبل الثورة والثوّار بعد الثورة؛ ولذا قال في سورة الحديد المباركة: إنّ الذين سعوا واجتهدوا في زمن غربة الإسلام، ولم يتردّدوا في التضحية بأرواحهم وأموالهم، لا يستووا مع مَنْ انضموا إلى الثورة بعد الانتصار، وهذا الفرق ليس في السَبْق الزمني فقط؛ لأنّ السَبْق الزمني لا يحتوي على تلك الخصوصيّة لكي يعتمد عليه القرآن الكريم؛ مثلما إذا كان مسجد ما مفتوحاً لجميع المصلّين، ومَنْ كان قريباً من المسجد قد جاء سابقاً، ومَنْ كان طريقه بعيداً جاء متأخراً، وإنْ كان [في هذه الحالة] فرق بين الاثنين، لكن لا يوجد فرق بينهما لكي يعتمد القرآن الكريم عليه، فهذا النوع من السَبْق الزمني ليس معيار للشرف.
فذلك السَبْق الزمني يعتبر معياراً للمجد، عند ما يكون شخص ما يتمتع بالتمييز والشهامة، ويفهم ويقبل مدرسة الحق قبل الآخرين؛ حینما یکون في جميع الاحتجاجات حديث عن سبق إسلام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه)، ويقول أمير البيان (سلام الله عليه): يوم اعتنقت الإسلام كنتم لا تزالون كافرين، أو حينما يقول النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) في فخر أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه): «إنّ عليّاً أعظمُ المسلمين على المسلمين بعدي حقّاً وأقدمهم سلماً» [6]، أو عند ما يتفاخر أهل البيت (سلام الله عليهم) بأنّ «عليٌّ أقدمهم سلماً»، أو يتباهى بعض الصحابة بأنّ «عليٌّ أقدمهم سلماً»؛ فهذا يعني أنّه في اليوم الذي كان فيه مسألة قبول الإسلام لا تزال محل شك لدى الآخرين، تمّ حلّها لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه)؛ وفي اليوم الذي كان الإسلام يتطلب التضحية بالمال والنفس، كان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) مسلماً؛ وفي ذلك اليوم عند ما كان الحديث عن الإسلام مشكلة، كان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) مسلماً؛ وفي ذلك اليوم الذي كان من الشائع الجلوس بجانب مائدة الكفر والنفاق، كان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) مسلماً؛ لذا، فإنّ جملة: «عليٌّ أقدمهم سلماً» هي باعث لاحتجاج أهل البيت (سلام الله عليهم).
والنتيجة هي أنّه لو تمّ تقديم المئات من قادة الثورات إلى ساحة الوجود ـ سواء كان ذلك في الشرق الأقصى، أو في الشرق الأدنى، أو في الشرق الأوسط، وسواء كان ذلك في الغرب الأقصى أو في الغرب الأدنى ـ، فإنّ إمامنا الراحل (قدّس سرّه) هو إمامهم جميعاً؛ لأنّه إذا صنع أحد ما شيئاً يعيد إحياء فكرة الأُمّة وكذلك فكرة الإمامة في القادة، فهو مثل الأعلى في ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ﴾، والإمام الراحل (قدّس سرّه) كان أوّل شخص حصل على هذا المقام في القرون الأخيرة، فطوبى له وحسن مآب.
* كتاب «البنيان المرصوص» لآية الله العظمى الجوادي الآملي، ص 232.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الحشر (59): الآية 2.
[2] سورة التوبة (9): الآية 100.
[3] سورة الحديد (57): الآية 10.
[4] سورة الزمر (39): الآية 9.
[5] سورة النساء (4): الآية 95.
[6] المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 22، ص 502، ح 48.