قد شرح حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى الجوادي الآملي، بمناسبة ذكرى مولد السيّدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، شخصيّة تلك السيّدة المتعالية في ملحوظة.
وفيما يلي شرح هذه الملحوظة:
أبارك وأهنئ الأُمّة الإسلاميّة، بل العالم البشري، وخاصّة المجتمع الإسلامي في إيران العزيزة، بذكرى مولد السيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).
لا شك في أنّ الزهراء المرضيّة (سلام الله عليها) لها مكانة خاصّة في قلب المجتمع الإسلامي والأُمّة الإسلاميّة، مثلما كرّم إله الکون في القرآن هذه الشخصيّة خاصّة بعنوان «ذي القربى»، وقال: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّه﴾ [سورة الإسراء (17): الآية 26]؛ أي: أنّ عناية الله سبحانه وتعالى من موقع خاص، حتّى أنّه أمر رسوله بأنْ يقوم بأداء مثل هذا الواجب تجاه هذه السيّدة الشريفة.
كانت السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) في عناية الله مباشرة؛ أي: بغض النظر عن حبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي كان آخر أنواع التكريم والتعظيم بالنسبة لابنته، واستخدامه أعلى وأرقى العبارات والكلمات تكريماً لهذه السيّدة الشريفة، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى قد خصّها بعنايته مباشرة، عند ما جاء جبريل وسلّم، وقال: إنّي قادم من عند الله، وإله الکون يسلّم عليك يا زهراء؛ هذه المکانة هي مکانة خاصّة، وفهم هذه المسألة أمر صعب للغاية؛ لذلك، قالت السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) [في الجواب]: «هو السلام، ومنه السلام، وإلیه [يعود] السلام» [الكليني، الكافي (ط ـ الإسلامية): ج 1، ص 282، ح 4]، والتي کانت تعرف کلّ السلام من موقع الحقّ سبحانه وتعالى.
إنّ علاقة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) بربّها في مناجاتها، وكلامها، وعباداتها، وما شابه ذلك هي علاقة مهتمّة للغاية، وربّما لا تكون مثل هذه العلاقة لغيرها، وقد جعل إله الکون مثل هذه المكانة للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها).
يمكن قول الشمولية الوجوديّة للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) في جملة واحدة في كلام الإمام الصادق (سلام الله عليه) حول تأويل سورة القدر الشريفة، حيث قال: إنّ الزهراء (سلام الله عليها) هي ليلة القدر؛ قال ذلك الإمام في شرح وتفسير سورة القدر: «اللیلة فاطمة والقدر الله، فمن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك لیلة القدر وإنّما سمّیت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها» [المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 43، ص 66، ح 58]، فمثل هذه العبارات هي ما فوق التصوّر، وهذه الشموليّة تتطلّب معرفة شخصيّة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) وحتّى نعرف أنّنا نتحدّث عن أيّ مرحلة.
والسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) لا فقط أنّها كانت ذا مكانة بين الأرضيّين فحسب، بل «متی قامت في محرابها بین یدي ربّها ظهر نورها لملائکة السماء کما یظهر نور الکواکب لأهل الارض» [الصدوق، الأمالي: ص 113]؛ أي: أنّ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) تسلّط الضوء على الملكوتيّين والكروبيّين من موقع زهرتها والنور الذي أعطاه الله لها، وعند ما كانت تستقر في محراب العبادة، بحسب قول السيّدة الزهراء (سلام الله عليها): «وقد أقبلت بقلبها على عبادتي» [الصدوق، الأمالي: ص 113]؛ إنّ إله الکون يثني على عبادة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) هكذا، بحيث لا تكون عبادتها لسانيّة فقط، وهي ليست فقط من جانب الأعضاء والجوارح، وليست من جانب الجوانح فقط، وليست من ناحية العقل فقط، بل إنّ أعلى الوجود الإنساني هو القلب، والسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) كانت تناجي ربّها وتتكلّم معه من هذا الموقع.
وهذه الخصال التي ذُكرت للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) تدلّ على مكانتها الوجوديّة والتي يجب على الأرضيّين أنْ يتعلّموا منها، وأنْ يجعلونها قُدوة لسلوكهم، وأنْ يأخذوا في الاعتبار اهتمامها بالمجتمع الإسلامي.
ومن أهم المسائل المتعلّقة بعناية السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) للأُمّة الإسلاميّة والمجتمع الإسلامي، هي أنّ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) تقول في إحدى مناجاتها: «الهي وسیّدي أسألك بالذین اصطفیتهم وببکاء ولدي في مفارقتي أنْ تغفر لعُصاةِ شیعتي وشیعة ذرّیتي»؛ هذا الكلام هو كلام عزيز للغاية، أي: أنّه يظهر أقصى درجات المحبّة، والاهتمام، والخُلّة من السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) لكلّ فرد من أفراد الأُمّة؛ حتّى المذنبين والذين ضلّوا وزلّوا. قالت السيّدة الزهراء (سلام الله عليها): «الهي وسیّدي أسألك بالذین اصطفیتهم» أي: إلهي أسألك بحقّ الأنبياء والأولياء، وحتّى هذا التعبیر الحزين جدّاً: «وببکاء ولدي في مفارقتي»، أي: الهي أسألك ببکاء ولدي في مفارقتي أنْ تغفر لمذنبي الأُمّة، وشيعتي، وشيعة ذرّيتي؛ وهذا أقصى درجات المحبّة، والخُلّة من السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) تجاه المجتمع وكلّ فرد من أفراد الأُمّة الإسلاميّة، حتّى أنّها تتوسط ببكاء أبنائها في مفارقتها، لکي يرى إله الکون شفقة هذا الأمر، ويتعامل مع عباده من موضع الرحمة والرأفة الإلهيّة، وهذا أيضاً يحكي عن عظمة السيّدة الزهراء المرضيّة (سلام الله عليها).
وبالخصائص التي ذُكرت عن هذه الشخصيّة في الآيات الإلهيّة، وخاصّة آية التطهير، فهي تحدّد مكانة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) الوجوديّة؛ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) هي القدر المتيقّن من العترة وأهل البيت (عليهم السلام)؛ أي: أنّ جميع أهل السُنّة والشيعة يقرّون ويذعنون بطهارة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) وأنّها الركن الأساسي للعترة الطاهرة ولأهل البيت (عليهم السلام)، وما يقال ويُنظر إليه على أنّه سلوك السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) هو من موضع الطهارة الخاصّة والتطهير الذي قام به إله الکون على أساس نظام التکوين؛ لذلك، لا يمکن رؤیة أيّ انحراف من السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) في أيّ وقت.
ولمّا واجهت السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) قسوة الحكم الباطل، وعنفه، وتطرّفه، وخلافته الکاذبة، كان لها أقوال وكلمات وتصرّفات، وکلّها کانت مستندة؛ بمعنى أنّها حيث كانت تتكلّم وتتصرّف من موقع مقام آية التطهير، فإنّها كانت في عناية إله الكون ومؤيّدة من قِبَل إمام زمانها؛ أي: أنّها إذا واجهت الخلفاء وقالت شيئاً ـ سواء عند إلقاءها الخطبة الفدکيّة في المسجد، أو عند إلقاءها الحديث إلى نساء المهاجرين والأنصار ـ كلّ هذا كان في مرأى ومنظر الإمام عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه)، والإمام لا فقط أنّه صدّق وأيّد ورافق، بل كانت مكانة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) بشكل كان الإمام عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) يصطحب كلّ هذه الأُمور بكلّ وجوده.
ما حدث للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) في الفترة التي تلت وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ والتي لم تستغرق وقتاً طويلاً ـ كانت ظروفاً وأوضاع يمكن أنْ تكون دائماً درساً للأُمّة الإسلاميّة. بحسب حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، جعل الله تعالى مكانةً للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) لكي تكون مظهراً لرضى الله وغضبه: «إنّ الله یغضب لغضب فاطمة ویرضی لرضاها» [المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 21، ص 279] هذا الكلام استثنائي، يعني أنّها وصلت إلى درجة الفنا وحائزة على قرب الله لحد أنّها كانت في قرب الفرائض تعمل عمل الهي؛ إذا غضبت السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) فهذا هو غضب الله، والسيّدة الزهراء (سلام الله عليها) هي مظهر من مظاهر غضب الله، وإذا أبدت رأفة في مكان ما، وأعطت قميصها للفقیر ليلة زفافها وزواجها، فهذا مظهر من مظاهر رحمة الله.
لذلك، على الرغم من أنّ الخلفاء كانوا في ذروة قوّتهم وموقعهم الحكومي، إلّا أنّ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) واجهتهم بشكل حاسم وبكلّ قوّتها من باب الحقّانية، وقالت للخلفاء بصراحة: هل سمعتم أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: «من آذى فاطمة فقد آذاني»؟ قالوا: نعم، سمعنا هذا الكلام من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم). قالت السيّدة (سلام الله عليها): هل سمعتم أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ غضب فاطمة هو غضب الله؟ قالوا: نعم سمعنا. قالت السيّدة (سلام الله عليها): «فإنّي اشهد الله تعالى أنّكما قد آذيتماني وأسخطتماني وما أرضيتماني» [انظر: المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 29، ص 157؛ يوسف بن حاتم الشامي، الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم: ص 484]، وهذا کلام حجة الله القاطع إلى يوم القيامة على أنّه إذا كان أشخاص متوافقين مع هذا الاتجاه فليعلموا أنّهم أوجعوا قلب السيّدة الزهراء (سلام الله عليها)، والذين تجاهلوا الخليفة الحقّ الإلهي ـ أي: عليّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) ـ في الواقع قلقوا السيّدة الزهراء (سلام الله عليها).
لذلك، يجب أنْ نعرف السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) بكمال الدقّة.
وفي الجزء الأخير ممّا نقدّمه، أُشیر إلى هذه النقطة وهي أنّ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) تحمّلت الكثير من الصعوبات والمشقّات، وفي جملة واحدة قال أميرالمؤمنين (سلام الله عليها) للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): لا أستطيع أنْ أخبرك عمّا حدث لي؛ من حرق باب البيت، وأذى الزهراء (سلام الله عليها)، وما إلى ذلك، ولكن «ستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك على هضمها» [الكليني، الكافي (ط ـ الإسلامية): ج 1، ص 459، ح 3]. هذا الكلام يحمل في طيّاته بحر من الكلمات، وهو أنّه يا رسول الله، قريباً ستشرح لك الزهراء (سلام الله عليها) حالتنا، ومدى قسوة معاملتهم لنا، وكيف حصرونا، وحبسونا، وعزلونا، ولم يسمحوا لنا بالكلام، وكيف ربطوا أيدينا وأقدامنا بالحبال.
هذه الأيّام هي أيّام مولد السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) ولا ينبغي لنا أنْ نفسد طعم المجتمع ونجعله مرّاً، لكن للأسف، الظروف التي مضت على الأُمّة الإسلاميّة في الماضي، وقد تفرض نفسها الآن إلى حدّ كبير على المجتمع الإسلامي، توجب على المجتمع دائماً أنْ يعرف تاريخ حياة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) سواء خلال أيّام ولادتها أو أيّام استشهادها. يجب أنْ يعرف الناس في مجتمعنا؛ كما عليهم أنْ يدرجوا مخاوفهم وقلقهم مع مخاوف وقلق السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) وعليهم أنْ يعلموا أنّ مثل هذه الحوادث قد حدثت لكبار الإسلام؛ كذلك عليهم أنْ يدرجوا السرور والأفراح والأنشطة والآمال أيضاً.
قال الإمام صاحب العصر والزمان (سلام الله عليه): «وفي ابنة رسول الله لي أُسوة حسنة» [المجلسي، بحار الأنوار (ط ـ بيروت): ج 53، ص 180، ح 9]، يجب علينا دائماً أنْ نجعل ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أُسوة، لأنّها معدن اللطف والحبّ والطهارة والود، ومعدن المعرفة والإخلاص لربّ العالمين، ومعدن العناية والعطف تجاه الأُمّة الإسلاميّة، وقد كانت عطوفةً تجاه المجتمع من جميع الجهات.
وحديث «الجار ثمّ الدار» [الحر العاملي، وسائل الشيعة (ط ـ مؤسسة آل البيت عليهم السلام): ج 7، ص 113، ح 8884] الذي فيه أنّ السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) وقفت على قدميها حتّى اللحظات الأخيرة وکانت تقصد جيرانها وتدعوا لهم، فليس المراد هو نفس جيران زمانها فقط، بل المقصود هو العصاة والمذنبین من أُمّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أيضاً. إنّ مجتمعنا الإسلامي لا يعرف أحداً أعلى من هذه المرأة، السيّدة، وسيّدة نساء العالمين، وكما قالوا: يجب أنْ تكون قُدوة ونموذج للمجتمع. يجب التوجّه إلى الشعارات المتعلقة بالمرأة أنّ المرأة الأصيلة، والمرأة التي نشأت في حضن الوحي والرسالة، والمرأة التي يعتني بها الخالق وربّ الكون، يمكنها أنْ تجلب الفخر والشرف إلى المجتمع البشري، ويمكنها أنْ توفّر طريق الحياة والحريّة المجتمع.
المصدر: جماران