بيان سماحة آية الله العظمى جوادي الآملي (دام ظلّه الوارف)
إلى حجاج بيت الله الحرام حول حج هذا العام 1433 هجري
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه تعالى نستعين .. الحمد لله في الأزل الأول، الذي جعل {الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ}[1]، وقبلةً للموحّدين ووالوافدين إليه، والسلام أبداً على أنبيائه ورُسُله، وخلفائه في الأرض، الذين هم قدوة الراكعين والساجدين، والعاكفين والطائفين حول بيت التوحيد. وعلى سلالة طه الأمين وآل ياسين، لا سيما خاتم الأئمة الهداة المهدين، وقائمهم الموجود الموعود (عجّل الله تعالى فرجه)، سلام لا أمدَ له ولا نفاد، الذين هم اُسوة الحجّاج والمعتمرين والزائرين للبيت الرفيع، البيت الذي رُفعت قواعده بذكر: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}[2]، وعِمارة الخليل والذبيح (عليهما السّلام). نتولّى هذه الذوات القدسيّة، ونتبرّأ من معانديهم ومخالفيهم.
واليوم إذ دُعي ضيوف مهبط الوحي من كلّ فجٍّ عميق إلى مائدة التوحيد ومأدبة الوحدانيّة، وقد لبّوا هذا الهاتف الملكوتي بتلبيتهم الخالصة، يجدر بنا أن نذكر بعض النقاط المهمة نقدّمها بضاعةً روحيةً لضيوف الرحمن؛ عسى أنْ تكون لهم ذخراً وذخيرةً في الدارين، وتذكرةً وتبصرةً عبر مسيرة تأريخهم وسيرة حياتهم.
هذا مضافاً لدعائنا وطلبنا من الله سبحانه وتعالى أن يصلّي عليهم أينما حلّوا ونزلوا، حيث يقول: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}[3]، وسؤالنا منه أن يريهم مناسكم ومواقفهم بين يديه: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[4]، وأن يوليهم ذكره بعد فيضهم من عرفات: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[5]، مع تمنّياتنا لهم بالفوز {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[6]؛ إذ كانت هذه الاُمور مخاضات إدراك الحجّ الأكبر.
أوّلاً: أن لا يتضرّع الحجّاج الذين يضعون رؤوسهم بفناء بيت العزّةِ التوحيد، والمعتمرون الملبّون نداء الرحمان بجوار الكعبة، أن لا يتضرعوا إليه سبحانه وتعالى لخصوص نجاتهم من الجحيم أو الفوز بالنعيم، بل ليسعوا أن يتحرّروا من حضيض الرقّ وبراثن الاستعباد، وأن يفكّوا أنفسهم ويعتقوها من طغيان المستكبرين وجشع المساومين، وينزلوا أنفسهم في منزل >وجدتُك أهلاً للعبادة<[7]، حتّى تبتعد عنهم لُهبُ جهنّمَ ونيرانُها، وتشتاق إليهم الجنانُ وسكانُها؛ فإنّ كلَّ دنيء تائق إلى العلُى، وكلَّ فائق بعيد عن السّفلى. هذا المعنى السامي هو من بدائع سيّد الموحّدين، ووليد الكعبة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أمير المؤمنين؛ فهو أوّل إنسان من اُمّة الخاتم (صلّى الله عليه وآله) بلغ مراتبَ السمو والكمال، وفتح باب الولاية على مصراعيه في العبادة التوحيديّة لله الواحد الأحد، وبفتحه لهذا الباب علّم الاُمّة الإسلاميّة جيلاً بعد جيل الطريقةَ المُثلى في تربية الأولياء والصالحين، فقدّم عبيداً لله مُزجت البصيرة التوحيديّة بجبلّتهم ونوازعهم، فكانت ذخائرهم تراثاً مشرّفاً لسالكي طريق الهداية والولاية.
وقد أثبت أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ المرء الخائف من جهنّمَ وأهوالِها لا يرى إلاّ نفسه، كما أنّ الذي شُغف بالجنان وأحوالِها لا يحوم إلاّ على نفسه، فلا ذاك له إلى حظيرة الولاية طريق، ولا لهذا إليها سبيل؛ فكلٌّ يحوم حول نفسه ويطوف، وله بأطرافها أشواط وبأنحائها مسارات، وهما مبتليان بمجاز الحجاز، وليس لهما حظٌّ من حقيقة الكعبة المحاذية للبيت المعمور، التي هي حقيقة قائمة على التسبيحات الأربعة (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر)[8].
ولمّا وقف القلبُ على حقيقة طواف كعبةِ حيِّك، أصبح لا يرغب في الذهاب إلى الحجاز؛ لفرط ما له من الشوق إلى بلوغ حريمك[9].
ولذا كان الكلّ ملزماً بقبول هذه الاستضافة:
لكلٍّ من الراحل والمقيم اهتمامٌ بكعبتك المقصودة[10].
ثانياً: إنَّ أهمّ رسالة للحجّ هي أن يدبّ نغم التوحيد في متن وأطراف هويّة مُحرمي كعبته، حتّى يتحرّكوا حول محور {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[11] ، في كافّة أقوالهم وأفعالهم وسِيَرهم، وأن يكونَ الفكرُ الديني حاضراً في حياتهم ويومياتهم، وسارياً فيها سريان ماء الرياحين في أوراق الورد؛ فإنّ ريحَها وروحَها رهنُ تلك القطرة العطرة، فإذا بلغهم خيرٌ فليطلبوا حقيقته، ولا يقولوا: مَن الذي أعطانا إيّاه وأسداه إلينا؟ بل لينظروا مَن الذي جاء به وبلّغهم إياه؛ فإنّ معطي ذلك الخير هو الله جلَّ جلاله، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[12]، وليروا أنّ سعيهم وجهدهم وتحركاتهم ما هي إلاّ أسبابٌ، وأنّ هذه الأسباب والآليّات رهينة اللطف الخاصّ من الربّ الودود؛ إذ ليس لما سواه إلاّ العبودية والفقر:
إنّ مع وجود القهّار بلا منازع، والغفّار الذي لا يملّ، والديّان الحسيب بلا معين، والسلطان بلا عساكر، فإطلاق لقب الملك على ما سِواه أشبه بإطلاق لفظ الملك على أعواد لعبة الشطرنج[13].
وإنّ عكوف الموحّدين من أهل الحرم وزائري خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله)، وأئمة البقيع (عليهم السّلام)، والسيّدة الزهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام)، ممّن سلف وغبر، وقدّم وعبر، لَسبيلٌ يسيرٌ إلى بلاط قدس الإله السبّوح القدّوس.
ها إنّ روحي في يدي هي عوض للقائك، فخذ بيدي؛ فإنّ سوم عاشقيك ليس إلاّ يداً بيدٍ[14].
ثالثاً: الكعبة بيت رفيع، عاكفوه منزّهون عن الميل والنزوع إلى اللهو واللعب، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[15]، ومبرَّؤون عن أن يمسّهم اللهو، {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}[16]. والذي لا ينحو نحو العيوب، ولا تهرع إليه المناقص والذنوب فهو جديرٌ بأن لا يحوم حول القصور، ولا يسري فيه الفتور. وأمّا الذي لا يخطو في اُفق الغروب، ولا يأتي عليه الاُفول لخليقٌ بمثله أن يكون من مُحرمي فِناء بيتٍ هو مرآةٌ لعرش الله، وإنّ قلبَ هكذا مُحرِمٍ مُطيفٍ لهو عرشُ الرحمن، ويليق بأن يسمّى ما يرد على هذا القلب من المعارف السبّوحيّة بـ (الحكمة العرشيّة )، مثلما كان الحكماء المتألّهين في سيرتهم القدسيّة العريقة يعبّرون عن إبداعاتهم القلبيّة التي لم تُسبق باستطراق الآخرين لها، ولم تَلحق أفكارُ المتأخرين بها، بل اصطبغت بالصبغة الإلهيّة الخاصّة، يعبّرون عنها بـ (الحكمة العرشيّة )، وليس الآراء العلميّة الدقيقة والمعمّقة أيّاً كانت؛ إذ علوم الآخرين ما هي إلاّ حكمة عرشيّة بالنسبة إليهم فقط، كما أنّ نعمة البصير هي لصاحب البصيرة فقط.
وكيف كان، فالكعبة التي هي دار ضيافة الله الخاصّة أثارة للكوثر وليس التكاثر، ولن يبلغ أصحابُ كثرة متاع الغرور منزلةَ أصحاب كوثر العقل والعدل.
ألا أيّها الحجّاج والمعتمرون في مسعى الكوثر، ابغوا الحكمة العرشيّة، وارجموا مرمى التكاثر حتّى تشتاق إليكم الكعبة كما تتوق الجنّة وتشتاق إلى الأوحديّ من أهل الإيمان.
ومن الناس قومٌ قطعوا الفيافي شوقاً إلى الحجّ، وآخرون من نشاط الخمرة يجوبون الحدائق. وهناك طائفة فارغون بما عندهم من شجون، من طرب هؤلاء ومن طلب اُولئك.
ولأجل أن يتعلّق القلب بك، وينقطع عن غيرك، كان ما لقينا من العناء الذي كادت أن تزهق من أجله أنفسنا.
ولكي تعلق الكفّ بحُجزة وصلك يوماً، كم أطرقنا برؤوسنا، ليالياً، بفكرتك،
إنّ لكلّ داءٍ دواءً، إلاّ أنّ داءك أذهلنا عن الفكر بدوائه[17].
رابعاً: إنّ للكعبة ستاراً ينتظر قومٌ بفارغ الصبر أن يُرفع حتّى يروا ما في ذلك البيت الرفيع الإلهي، والكعبة هي أيضاً ستار للبيت المعمور، يسعى الخواصّ من أهل الطواف والعكوف أن يرتفع ذلك الستار حتّى يروا البيت المعمور مثل ما تراه الملائكة. كما أنّ هذا البيت المعمور هو أيضاً بدوره ستار للعرش الإلهي، يتململ الفريق الأخصّ من الطائفين أن يرتفع حتّى يشهدوا حاقّ العرش. وإنّ هناك طريقتين لالتماس ارتفاع الستار، وهما طريقتان على سبيل مانعة الخلوّ يمكن أن تجتمعان:
الاُولى: هي عبر استلال يد الجَهْد، والاُخرى: هي بتعليل نسيم الجَذْب.
كما أنّ الستار المحسوس يزاح تارة باليد، وتارة اُخرى بنسيم عليل، فالمبتلون بالجهل العلميّ والجهالة العمليّة: {أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}[18] ، محرومون من كلتا النعمتين، بينما المتنعّمون بقرب النوافل >كنتُ ... بصرَه الذي يبصر به<[19]، حائزون على كلتا المنّتين.
وإنّ أحسن وقت وأفضل مكان لاجتلاء البيت المعمور والعرش الإلهي لهو الفرصة الذهبيّة في أيّام الحجّ ومهبط الوحي.
ألا أيّها الطائفون العاكفون، كونوا يوماً ما بين سعي وانجذاب حتّى ترفعوا ستار البيت المعمور (أي الكعبة) عنه، أو هو الستار الذي يرتفع بواسطة النسيم القدسي، فعندها تجدون الأنبياء والصدّيقين، والشهداء والصالحين مُحرمين في ذلك البيت، وتدعون معهم حينئذ في حرم ذلك البيت المعمور، فتستبينوا مدى الفرق فيما بين عُمّار ذلك البيت ومعتمري هذا البيت.
هناك فرق بين العابد والعارف؛ فهذا مرتاح لعشق العمل، وهذا لعمل العشق[20].
خامساً: إنّ قبلة العاكفين الطائفين ، ومطاف الحجّاج والمعتمرين على الحقيقة هي مرآة أسماء الله الحسنى، والإنسان الكامل الذي هو مظهر الاسم الأعظم يشاهد نفسه مضيفاً لكافّة أسماء الله الحسنى، كما ويكون ضيفاً عليها جميعاً، وليس هناك أيُّ مانع من الضيافة إلاّ احتجاب الزائرين عنها بحجابهم الشخصيّ.
ويمكن أن يُلحظ طيفٌ من امتيازات الضيوف، واختلاف النازلين عن بعضهم البعض، وكذا اختلاف الاستضافات، في اختلاف نداء ونجوى أهل المناداة وآل المناجاة، وإنّما هذه الأدعية المتنوّعة رشحات لأهل بيت الوحي (عليهم السّلام) الذين هم مظاهر تامّة لأسماء الله الحسنى، وقد قامت تلك الذوات القدسيّة التي حظيت بمزايا قرب الفرائض، ونعمت بمواهب قرب النوافل، بترغيب البعض بالدلالة والإرشاد، بأن تسأل الله أن يوليها الدليل والهادي للطريق، وقامت بهداية آخرين بالدلال والغُنْج، إلى أن يُدلّوا على الله في مضجع الافتقار إليه، وينطلقوا من منصّة الحاجة والفاقة إلى جهة الغُنْج والدلال، ويقوموا بمناجاة ربّهم مدلّين عليه، في منتهى الاُنس والمحبّة، بعيداً عن الاحتجاب واعتراء الخوف، ويعتبروا أنّ هذه المناجاة المحبوبة أفضل من كل ما في الوجود، لا سيما ما جاء في دعاء الافتتاح لليالي شهر رمضان عن خاتم الأئمة، بقيّة الله الأعظم (أرواح مَن سواه فداه) : >وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلّاً عليك فيما قصدتُ فيه إليك<.
وقد بانت طريقة الدلال والإدلال في عبارة: >فإن أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك<[21]؛ فإنّ الموجود المفتقر الذي فقره ليس من سنخ العرض المفارق، ولا من قبيل العرض اللازم للذات؛ ذلك لأنّه ليس من مقوّمات الذات بمعنى الماهيّة، مثل: الحيوان الناطق للإنسان؛ فإنّ الفقر لو كان لهذا الموجود بمثابة ذاته الماهويّة، وبما أنّ الذات ـ بمعنى الماهيّة – متأخّرة عن هويّة وأصل وجود الإنسان، يلزم عنها أنّ الحاجة ليست في حاقّ هويّة الإنسان، والحال أنّ الموجود الممكن ـ مثل: الإنسان ـ لا وجود له غير الافتقار.
وقد سُمح لمثل هذا الموجود المفتاق بأن يُحلّق من منعرج مخاطبة الفاقة والاحتياج إلى معاتبة الإدلال، حتّى إذا ما لم تلبّ طَلِبته، ولم تُسعف حاجته، أخذ وهو في بحبوحة المناجاة مع ربّه في معاتبته: أنّه لماذا أبطأ في إجابته؟
وأيضاً ما جاء في المناجاة الشعبانيّة فهو هكذا: >إلهي، إن أخذتني بذنوبي أخذتك بعفوك، وإن أدخلتني النار أعلمتُ أهلها أنّي اُحبّك<[22]. وبما أنّ هذه الكلمات النورانيّة هي عن لسان أهل بيت العصمة والطهارة، وأنّ تلك الذوات القدسيّة كانت قد حظيت بقرب النوافل، فهي في الحقيقة قيلت بلسان إلهي، وبلسان الاعتراف والدلال والإدلال وليس بلسان آخر سواه.
هؤلاء القوم الذين أحرموا في حرمك لم يهدؤوا حتى سلّموا رؤوسهم.
وإنّهم وإن لم يكونوا قد رأوا الشراب وحانوته، من قبل، إلّا أنّهم نشاوى على الدوام، شوقاً إلى تلك الشفة المسكرة[23].
سادساً: إنّ رسالة الحجّ البليغة للمتعبّدين والمتّقين هي توفير الاقتصاد في ظلّ الاعتقاد، وتحقّق الأمان في ضوء أداء الأمانة: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[24]، وإنّ الدواء الناجع الوحيد لمجتمع جاهليّ هو ارتداء لبوس الحرب؛ حيث خصّص قسماً كبيراً من ميزانيّة الأرض لقتل الإنسان؛ لَلعقلانيّة التوحيديّة التي يمكن الحصول عليها بتفكير العقل وداعي العدل. وستوفّر اليقظة الإسلاميّة في الشرق الأوسط دواعي انتباه الشرق والغرب الأقصيين من سباتهم، وإنّ من حصائل الإحرام لله الواحد الأحد ومحاصيله ضرورة الوحدة الإسلاميّة من جانب، ولزوم موالاة الموحّدين من جانب آخر، وحتميّة البراءة من المشركين من جانب ثالث، وإنّ أداء شكر الله لهو اجتناب دعم المجرمين وتأييدهم، كما جاء عن لسان كليم الله موسى (عليه السّلام): {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}[25]. وإنّ المصلّين ليكرّروا هذا الطلب الناشئ من التوحيد الصرف في صلواتهم، ويرون أنّ الصمت على الظلم بمثابة الركون إلى الظالم، وأنّه يبعث على استشراء هذا الظلم والطغيان، ويعتمدون في شجب ذلك على المقولة النبويّة البالغة: >الساكتُ عن الحقِّ شيطان أخرس<[26].
فبها يستنكرون على مؤجّجي نيران الكفر والنفاق، وبها يرون أنّ دعاة السياسة المشؤومة الذين يعدّون حيناً المنافقَ الإرهابيَّ مجاهداً، وحيناً آخر يعدّونه من حماة الحقّ والصدق على الحقيقة.
إنّ رمي الجمرات في واقعها رجم للشيطان، وكلّ تلبية هي بواقعها طرد للطاغوت، وقولة للاستكبار : اخسأ[27]. وإنّ لقب (بقيّة الله) الفاخر وإن كان يطلق على الإمام الخاتم، المهديّ الموجود الموعود (عجّل الله تعالى فرجه)، إلاّ أنّه في التعبير القرآني وصف للعلماء الملتزمين: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}[28].
لقد جاءت العبائر في الوحي الإلهي على صور مختلفة؛ فمرّة: {أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[29]، ومرّة اُخرى: {أُولِي الأَبْصَارِ}[30]، وثالثة: {اَُوْلِي النُّهَى}[31]، ورابعة: {أُوْلُوا بَقِيَّةٍ}.
إنّ ولاة البقاء وأولياء الخلود ومتولّي الدوام لهم رجال العقل والعدل، الذين لا يؤيّدون استكبار المتجبّرين، ولا حِيَل ومؤامرات المتكبّرين، ولا مكر أذنابهم الدائرين في فلك ظلمهم وطغيانهم. كان الإمام الخميني (قدّس سرّه) وسماحة المرشد الأعلى يصرّان على البراءة من المشركين في مناسك الحجّ؛ لأنّ عبادة الله حقّ العبادة لا تتجسد إلاّ بالابتعاد عن الشرك والظلم، وبإقصاء الطغيان والجور عن المجتمع: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[32].
أملي أن يتقبّل الربّ المنّان كافّة الإخوة المُحرِمين والأخوات المُحرِمات، في ضيافة ملكوتيّة، بقبول حسن، وأن تكون مناسكُهم وزياراتُهم مقبولة مشكورة، وأدعيتهم مستجابة، وسفرهم سفرَ خير وسلامة. وأبتهل إلى الله سبحانه أن يُقسم للجميع سكينة التوحيد، وطمأنينة النبوّة والولاية في ضوء التجلّي التامّ للقرآن الكريم والعترة الطاهرة (عليهم السّلام)، حتّى ترى البلدان الإسلاميّة جميعها عن كثب مآثرَ تعليم الكتاب والحكمة، وآثار تزكية النفوس في مناسك الحجّ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذي الحجّة الحرام 1433 هـ ق
قم المقدّسة ـ جوادي الآمليّ
[1] ـ سورة المائدة / 97.
[2] ـ سورة البقرة / 127.
[3] ـ سورة الأحزاب / 43.
[4] ـ سورة البقرة / 128.
[5] ـ سورة البقرة / 198.
[6] ـ سورة التوبة / 72.
[7] ـ الألفين ـ العلامة الحلّي / 128.
[8] ـ الأمالي ـ الشيخ الصدوق / 187.
[9] ـ ديوان حافظ / 260.
[10] ـ ديوان الجامي ـ فاتحة الشباب ـ قصيدة 1.
[11] ـ سورة البقرة / 115.
[12] ـ سورة النحل / 53.
[13] ـ ديوان الجامي ـ فاتحة الشباب ـ المثنويات في توحيد الباري عزّ اسمه.
[14] ـ ديوان الجامي ـ فاتحة الشباب ـ قصيدة 1.
[15] ـ سورة المؤمنون / 3.
[16] ـ سورة النور / 37.
[17] ـ ديوان الجامي ـ واسطة العقد / 14.
[18] ـ سورة الكهف / 101.
[19] ـ الكافي 2 / 352.
[20] ـ ديوان الجامي ـ فاتحة الشباب / 530.
[21] ـ تهذيب الأحكام 3 / 109.
[22] ـ إقبال الأعمال / 686.
[23] ـ ديوان الجامي ـ فاتحة الشباب / 280.
[24] ـ سورة قريش / 3 ـ 4.
[25] ـ سورة القصص / 17.
[26] ـ تفسير الكاشف 2 / 208.
[27] راجع: سورة المؤمنون / 108.
[28] ـ سورة هود / 116.
[29] ـ سورة البقرة / 269.
[30] ـ سورة الحشر / 2.
[31] ـ راجع: سورة طه، الآيتان 54 و128.
[32] ـ سورة النحل / 36.